السودان- حرب الإبادة وتهجير السكان وتواطؤ دولي؟

المؤلف: عزمي عبد الرازق11.20.2025
السودان- حرب الإبادة وتهجير السكان وتواطؤ دولي؟

إذا كنت تولي اهتمامًا للأحداث الجارية في السودان، فقد تظن للوهلة الأولى أنها مجرد صراع بين قائدين عسكريين، هما البرهان وحميدتي، يسعى كل منهما إلى تحقيق النفوذ والسيطرة على السلطة والموارد، في حين أن هذا التصور يحمل جزءًا من الحقيقة، إلا أن التدقيق يكشف عن وجود قوى خارجية تعبث بالبلاد وتؤجج نار الفتنة، تسعى إلى تحويل السودان إلى أرض خالية من سكانها، مسلوبة الإرادة، لتسهيل السيطرة عليها واستغلالها في المستقبل.

وفي هذا الإطار، تم إقحام أعداد هائلة من المرتزقة في القتال تحت مظلة قوات الدعم السريع، رافعين شعارات زائفة تدعي المطالبة بالديمقراطية والقضاء على نفوذ الإسلاميين، بينما الهدف الحقيقي يتجسد في استهداف المواطنين بشكل مباشر، وملاحقتهم حتى في المناطق التي نزحوا إليها بحثًا عن الأمان، وتجريدهم من ممتلكاتهم، وكأن الدافع الخفي وراء هذا العنف هو إجبار السودانيين على النزوح الجماعي والهجرة من وطنهم، لتمهيد الأرض وتجهيزها لمشروع استيطاني جديد.

خُطة التهجير

تجسدت خطة التهجير الممنهجة في استهداف البنية التحتية الحيوية، حيث تم قصف محطات المياه والكهرباء والمستشفيات بشكل متعمد، بالإضافة إلى نهب مخازن الأغذية، وفرض حصار خانق على الأحياء السكنية في الخرطوم، فتحولت المنازل إلى ساحة حرب، تتساقط عليها القذائف والصواريخ كالحمم الملتهبة.

لم يعد هناك مكان آمن يمكن للمرء أن يلجأ إليه، فقد أجبر أكثر من ستة ملايين شخص على ترك منازلهم قسرًا، وتعرضت مئات النساء لاعتداءات وحشية، وحُرم ما يقارب 19 مليون طفل من حقهم في التعليم، كما طال الدمار والنهب الجامعات والمصانع، وامتدت ألسنة اللهب لتلتهم مصفاة الجيلي، الواقعة شمال الخرطوم، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة، لتتجاوز الخسائر المادية حدود الحصر.

علاوةً على ذلك، يواجه بنك الجينات للموارد الوراثية النباتية النادرة، الموجود في مدينة ود مدني، والذي يضم أكثر من 15000 مدخل من الموارد الوراثية النباتية المتنوعة المستخدمة في الزراعة وإنتاج الغذاء، خطرًا وجوديًا حقيقيًا نتيجة لهذه الحرب المدمرة، التي لم ترحم بشرًا أو حيوانًا أو نباتًا.

حصار الولايات

وفي الوقت الحالي، ترزح مدن وقرى ولاية الجزيرة، التي تحتضن أحد أهم المشاريع الزراعية في البلاد، تحت وطأة حصار قاسٍ، حول أهلها الأعزاء إلى أذلاء، كما حدث في مدن الحصاحيصا والمعيلق والعزازة، وبعض القرى التابعة لولاية النيل الأبيض، في حين لا تزال دارفور تنزف جراحًا عميقة، وتشهد انتهاكات جسيمة ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، تستهدف مكونات سكانية محددة بهدف اقتلاعها من جذورها.

الجدير بالذكر أن ولاية الجزيرة كانت بمثابة الملجأ الأكبر للنازحين الفارين من الحرب، حيث استقبلت أعدادًا ضخمة من العائلات التي فضلت البقاء داخل السودان على الهجرة إلى الخارج، لأسباب ودوافع مختلفة.

ولكن سرعان ما تملك الناس شعور بالتواطؤ المريب بين الجيش وقوات الدعم السريع؛ ففي لحظة ما، ينسحب الجيش فجأة من منطقة معينة، لتقتحمها قوات التمرد بسهولة، وتنشر فيها الفوضى والنهب والقتل والترويع، مما يدفع السكان إلى الفرار مكرهين، وهم يرددون بلسان الحال: "أنج سعد فقد هلك سعيد"، وذلك بعد أن شاهدوا بأعينهم هجمات بربرية تشنها قوات الدعم السريع، تشبه غارات الفايكنج، بينما يقف الجيش عاجزًا عن حماية المدنيين، وفي كثير من الأحيان يتركهم فريسة سهلة لقوات حميدتي، الذي اعترف مؤخرًا في إحدى المقابلات بأنه يجبر المواطنين على النزوح من المناطق الخاضعة لسيطرته.

وادعى أن هناك عناصر متفلتة خارجة عن سيطرته، وهي محاولة يائسة للتنصل من المسؤولية؛ لأن الهجوم على تلك القرى والاعتداء على سكانها ووصفهم بـ "الفلول" يتم توثيقه بالصوت والصورة عبر كاميرات الهواتف الذكية، ونشره على منصات قوات الدعم السريع، على سبيل التباهي بالسيطرة على مواقع الجيش، لتتحول تلك الهواتف نفسها إلى أدوات إدانة، وأدلة دامغة تدين الجناة وتوثق جرائمهم!

الخيارات الصفرية

أما المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني، فهي على الرغم من أنها أقل تضررًا، إلا أنها تعاني أيضًا من ويلات الحرب، وتواجه خطر الاجتياح أو القصف العشوائي، كما أن أسعار الإيجارات فيها باهظة ولا تطاق، وقد فشلت السلطات المحلية في توفير الغذاء والمأوى للمشردين، وأصبحت الأسر بأكملها في مواجهة حتمية مع الخيارات الصفرية، حيث تضطر إلى بيع ما تبقى لديها من ممتلكات، أو الاستعانة بأقاربها المغتربين لمساعدتها على مغادرة السودان بشكل نهائي.

وقد شهدت المطارات والموانئ ازدحامًا غير مسبوق، حتى أن تكلفة رحلات التهريب إلى ليبيا ومصر ارتفعت إلى أرقام خيالية، وفي الوقت نفسه، قام مصنع الجوازات في بورتسودان، وهو المصنع الوحيد الذي لا يزال يعمل في السودان، بطباعة آلاف الجوازات، وكأنه يساهم بشكل مباشر في تسهيل هجرة السكان!

لست وحدي بالطبع من يراوده الشك في طبيعة هذه الحرب، التي استخدمت فيها أسلحة فتاكة شديدة التدمير، وشهدنا استخدام القنابل المدمرة والطائرات المسيرة الحديثة ومضادات الطيران، لأول مرة، بأيدي أشخاص يفتقرون إلى الخبرة اللازمة لاستخدامها.

وبات من الواضح أن الدول الكبرى متورطة في هذا الصراع الدائر، ولا تبدو حريصة على إخماد نار الفتنة، بل على العكس من ذلك، لا يوجد ما يبرر هذه الحرب، ولا توجد أسباب منطقية لها، ولا نعرف من الذي أطلق الرصاصة الأولى، ولماذا تتوسع رقعة الحرب لتشمل جميع ولايات السودان؟

ولكن المؤكد أن المنظمات الدولية تستثمر في هذه الأزمة، وتسعى إلى تحويل السودان إلى أرض خالية من السكان، حيث لا يشعر أحد بالأمان، وحتى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على بعض الشخصيات والشركات التابعة للجيش وقوات الدعم السريع لا جدوى منها، وتتجاهل الدول التي تمول الحرب وتدعمها.

وهناك دول أفريقية تسعى جاهدة هذه الأيام لإعادة تقديم صورة جديدة لحميدتي، وتسويقه في المحافل الأفريقية باعتباره الرئيس الشرعي للسودان، وعلى وجه الخصوص دول منظمة الإيغاد، مما اضطر السودان إلى تجميد التعاون معها.

وقد تم فتح العشرات من الحسابات المصرفية في بنوك أفريقية لإيداع وتأمين الأموال الطائلة التابعة لقوات الدعم السريع، وقد يكون الصراع القادم حول تلك الأموال وودائع الذهب الموزعة بين عواصم مختلفة، أما ميزانية الحكومة السودانية، فقد تحولت إلى ميزانية حرب بامتياز، في الوقت الذي يحتاج فيه أكثر من 24 مليون مواطن سوداني إلى مساعدات إنسانية عاجلة.

هذه هي الصورة القاتمة والمؤلمة للوضع في السودان، دولة اشتعلت فيها الحرب فجأة، والتهمت النيران كل شيء، ولا أحد يرغب في مد يد العون والمساعدة، وقريبًا جدًا، وإن لم تكن هذه نظرة متشائمة، سيصبح السودان خاليًا من سكانه، وفي ظل غياب فرص السلام، وضعف النخبة السياسية والعسكرية، وعدم اكتراثها، أصبح كل شخص يبني حساباته على أسوأ الاحتمالات، وأقلها هجرة طويلة الأمد، مصحوبة بالشوق والحنين والخوف، على بلاد وصفها أحد الأدباء بأنها: "كل ما حاولت أن تنهض تتكئ على بندقية".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة